الأربعاء، 9 يونيو 2010

شوارع مملؤه ذهب

شـوارع مملـوءة ذهبـاً !

قدم توم قطعة خبز لشاب فقير يُدعى وليم ، وهو يقول لي : " انني أشعر بمرارة في نفسي " كلما أراك بثيابك المهلهلة وجسمك النحيف الذي يرتجف من البرد ، وأنت ملقى في هذا الشارع ليس من مكان في القرية يأويك ، ولا من أسرة تنتمي إليها . أراك تئن من شدة الجوع . لماذا أنت متمسك بهذه القرية ؟

دمعت عينا وليم وهو يتقبل كسرة الخبز ، فإن له ثلاثة أيام لم يذق طعاماً قط. وفي صوت خافت تساءل :"أين أذهب ؟ ليس لي عمل ؟ لم أتعلم حرفة ما ؟ "

قال توم :" لتذهب إلى العاصمة لندن . هناك كما سمعت تجد الذهب منثوراً في شوارعها . ليس من إنسان جائع ،ولا من يحتاج إلى ملبسٍ أو مأوى . خذ هذه التذكرة ، سافر لكي تعيش ولا تموت هنا في القرية ".

تهللت نفس وليم إذ وجد لأول مرة إنساناً يشاركه مشاعره وأحاسيسه ، ويهتم به . أكل وليم كسرة الخبز وهو يدعو لتوم بالبركة والنجاح . وانطلق إلى محطة الأتوبيس ليذهب إلى لندن ويغرف من ذهبها المنثور في شوارعها كما سمع من كثيرين وأكد له توم ذلك.

في مدينة لندن

إذ بلغ وليم لندن وجدها تزدحم بسكانها جداً . بدأ يحني رأسه لعله يجد قطعة ذهبية في إحدى شوارعها ، لكنه لم يجد بنساً واحداً . سار في الطرق حتى أُنهكت قوته تماماً. واخيراً ارتمى على الأرض وقد ظهرت علامات البؤس الشديد عليه .

فتح جورج باب بيته فوجد وليم ملقياً بجوار باب بيته . انحنى بروح الحب واللطف نحوه وبدأ يتعرف عليه . روى له وليم قصته ، وكيف جاء إلى لندن يبحث عن قطعة أو اكثر من الذهب في شوارعها لعله يقدر أن يعيش بعد أن كاد الفقر أن يقتله . كانت دموع جورج تجرى مترفقاً بالشاب المتألم ،ومتعجباً من تفكيره الساذج البسيط .

أمسك جورج بيد الشاب ودخل به إلى بيته ، وسأل المربية تريز التي تعمل في بيته أن تهتم به ، وتقدم له وجبة طعام دسمة ، قدمت تريز وجبة الطعام لوليم لكنها كانت مشمئزة من منظره وملبسه ، إذ أكل وليم وجبة الطعام ، وشعر براحة قام يساعد تريز في أعمال المطبخ والتنظيف بكل قوته ، لاحظ جورج رغبة وليم الجادة في العمل فطلب من تريز ان تسمح له بالعمل معها ، مساعدة لها لأجل راحتها ، ومساعدة له حتى يجد فرصة عمل مناسبة . قبلت تريز أمر صاحب البيت ، لكنها كانت تشعر بشيء من الغيرة نحو وليم

صراع مع مربية البيت تريز

فرح وليم بهذه الفرصة الفريدة ، فقد وجد فرصته للعمل بكل اجتهاد مقابل طعامه اليومي ، وبياته في كوخ صغير في حديقة المنزل ، أمران سببا له أزعاجاً ، الأمر الأول أن تريز بدأت تعامله بعنف شديد وقسوة . تقدم له كل الأعمال القاسية والصعبة فيتممها ، وعوض أن تشكره على عمله أو تقابل جهده بابتسامة كانت تعنفه وتنتقدة ، بل وكثيراً ما امتدت يدها عليه بالضرب بقسوة . وكان يحتمل هذا كله من أجل لطف جورج واسرته ومن أجل عدم الرغبة في العودة إلى قريته ليعيش في بؤس شديد . أما الأمر الثاني فهو انه كان يعاني من الفئران التي كانت تجري حوله بل وتقفز احيانا عليه وهو نائم في كوخه البسيط في الحديقة .

لاحظت ماري ابنة جورج علامات الحزن على وجه وليم ، فبدأت تساءله عن السبب . أما هو فرفض أن ينطق بكلمة. واخيراً عرفت سبب حزنه . تحدثت مع تريز وطلبت منها أن تعامله بلطفٍ ولا تمد يدها عليه ، فاضطرت تريز إلى ذلك قسراً ، خوفاً لئلا تُطرد من المنزل . أما من جهة الفئران فقدمت ماري بنساً لوليم وطلبت منه أن يشتري قطاً صغيراً لكي تهرب الفئران من الكوخ .

هروب وليم

سرعان ما عادت تريز تعامل وليم بقسوة شديدة ، وإذ استمرت في قسوتها ، بل وتزايدت جداً ، فكر جدياً في الهروب من المنزل . لقد تعلق قلب جداً بصاحب المنزل جورج وأسرته ، لكن لم تعد تريز محتملة قط . فقرر مع منتصف الليل أن يهرب من المنزل سراً ، لم يكن لدى وليم شيئاً يحمله سوى بعض الملابس القديمة وضعها في منديل ضخم وربطه وعلقه في عصا حملها على كتفه . انطلق من المنزل مودعاً البيت بدموع .

خرج وليم من كوخه الصغير في الحديقة الخلفية للمنزل ، وكان قلبه يئن ، إذ وضع في قلبه ألا يعود مرة أخرى . لقد ترك أيضًا قطته المحبوبة في كوخه حتى لا تعود الفئران إليه فلا يتضايق من يحتل مكانه إن وجد .

سار في الطريق نحو قريته ، وكان قلبه يلهج بالشكر لجورج وعائلته ، يصلي من أجلهم . أما من جهة تريز فلم يحمل أية كراهية ، بل كان يصلي من أجلها ، طالباً أن يهبها اللَّه قلباً متسعاً مملوء محبة .

مرّت حوالي الساعة وهو يسير في خطوات بطيئة فشعر بتعبٍ فجلس قليلاً ، وإذ دقت أجراس كنيسة في المنطقة رفع قلبه نحو السماء يتساءل :" ماذا تريد يارب أن أفعل؟".

شعر كأن دقات الجرس تدعوه للفرح والبهجة بحمل الصليب ، والشركة مع مسيحه المتألم . بدأ يراجع حساباته ، وحسب نفسه إنساناً فاشلاً يهرب من الألم . وتذكر أنه سيترك قلوب محبة مجروحة بسببه . وربما بسببه يُساء إلى تريز ، ويحسبها أهل البيت أنها وراء هروبه . كما تذكر القط الصغير الذي تكونت بينهما علاقة حب .

رفع وليم عينيه تجاه منارة الكنيسة ، وتطلع إلى الصليب ، وصار يصرخ : " سأحتمل معك ومن اجلك كل ألم إن تضاعفت التجارب عشرات المرات لن أهرب من صليبك ، لست أطلب أن تعطيني نعمة في عيني تريز التي تضايقني ، بل هب لي قلباً متسعاً ، قادراً على احتمال ضعفات الأخير " .

بدأ الندم يملأ قلبه ، وأتجه بنظره نحو البيت الذي تركه وعاد إليه مملوء سلاماً وفرحاً . دخل من الباب الخلفي إلى كوخه الصغير ، وركع يصلي شاكراً اللَّه على اهتمامه به ، ثم نام بفرح شديد ، قام في الصباح المبكر كعادته ، وصار يعمل مع تريز بوجه باش ونفس مستريحة في الرب .

رحلة جورج التجارية

بعد أيام خرج الكل : زوجة جورج وابنته ماري ومعهما تريز والعاملون مع جورج يودعون جورج ، فانه سيغادر لندن لعمل تجاري . حمل الكثير من البضائع البريطانية وطلب من الجميع ان يدعون له بالبركة والنجاح ، كما سألهم أن كانوا يريدون أن يبيعوا شيئاً مما لديهم أو من صنع أيديهم لحسابهم ، فقدم كل واحد شيئاً حتى الزوجة الغنية والأبنة الصغيرة ماري. أما وليم فلم يكن له ما يقدمه للبيع .

سأله جورج إن كان لديه أي شيء ليبيعه فاجاب بالنفي . عندئذ قال له جورج :"أن لم يكن لديك شيء لأبيعه لك أعطني القط الصغير ربما أجد من يشتريه " صمت وليم قليلاً ، ثم قدم القط الصغير للتاجر الغني جورج وهو يقول :

" هذا كل ما لدي يا سيدي العزيز ، خذه ،ولكن ماذا أفعل فان القط عزيز لدي ، وهو يحميني من الفئران " ، أخذ جورج القط وقدم لوليم بنساً وهو يقول :" هذا البنس لشراء قط آخر !"

سخرية تريز بوليم

وجدت تريز فرصتها للسخرية بوليم الذي لا يملك شيئاً ، وقدم كل ما لديه وهو قط ليبيعه . ففي استهزاء كانت تقول له بين الحين والآخر " انك ثري سيبيع سيدك قطك الذهبي فتغتني !" "ما لي اراك حزين ، هل لأنك فقدت قطك المحبوب لديك!" " أراك تعاني من الوحدة ، فهوذا كل اسرتك قط يُباع !" إحتمل وليم بطول أناة كلمات تريز اللاذعة مع اهاناتها له الشديدة ، مجاهداً بكل طاقته أن يساعدها في كل عمل ، خاصة الأعمال التي تحتاج إلى مجهود عظيم .

وليمة ملوكية في جزيرة صغيرة

إنطلق جورج بكل بضاعته في سفينة تجارية ... وبعد أيام قامت عاصفة شديدة وكادت السفية تغرق ، غير أن البحارة اتجهوا سريعاً نحو جزيرة قريبة ، نزل البحارة ومعهم جورج ؛ هناك التقوا بملك الجزيرة والملكة . وإذ سألتهم عن اشخاصهم اخبروها بأمر العاصفة انجذب الملك والملكة نحو شخصية جورج الرقيقة ،وإذ عرفوا أنه تاجر عظيم دعوه إلى وليمة أقاموها في قصرهم ،وسألوه أن يعرض عليهم بضاعته ليشتروا منه ما يحتاجون إليه دخل جورج القصر ، وجلس على المائدة الملوكية . لكن لاحظ أن الفئران تملأ القصر ، وقد تسللت إلى المائدة ، وكان الملك والملكة في حيرة شديدة لا يعرفان ماذا يفعلان.

سألهم جورج : " كيف تقاومون الفئران ؟"

أجابت الملكة : " أنها مشكلة لا نعرف لها حلاً ".

قال جورج : أن الحل سهل وبسيط ، فانه يوجد حيوان صغير يأكل هذه الفئران . بمجرد وجوده تهرب الفئران وتختفي !".

تعجب الملك والملكة لسماعهما ذلك ، واستأذن جورج منهما ليذهب إلى السفينة حيث احضر قط وليم .وإذ جاء به بدأت الفئران تهرب وكان الملك والملكة يتعجبان لما يحدث.

قال الملك :" سأدفع ما تريد ... لن تأخذ هذا الحيوان !" اشتري الملك كل ما لدي جورج من بضاعة وقدم كنوزاً ذهبية ثمناً للقط .

ثمن القط

عاد جورج إلى لندن بسرعة فائقة ، وتعجب الجميع لسرعة عودته . وقدم جورج لكل شخص ثمن بضاعته .واخيراً إذ جاء إلى وليم الذي توقع ان يرد له قطته بكونها لا تباع إذا به يقول له :" أن ثمن القط كثير جداً ، لا أستطيع أن أحمله إليك !"‎ بسخرية شديدة ضحكت تريز بصوت عال جداً ، وهي تقول :" أنه قط ذهبي ! ليرجع إلى صاحبه ، فيكون لوليم قطان !" في جدية طلب جورج من عاملين ان يرافقا جورج ويأتي الثلاثة إلى السفينة وكانوا يحملون صناديق الذهب ثمن القط ! قدم جورج الصناديق لوليم وروى له ما حدث ، وكان الكل في دهشة عجيبة

قال وليم :" سيدي جورج . أن كل هذا الكنز هو بين يديك . أنا إنسان جاهل لا أستطيع التصرف !"

مدّ جورج يده إلى أحد الصناديق وقدم هدايا للجميع ، كما قدم حلي جميل لتريز وهو يقول لها :" لقد أشتركنا معاً في العمل ، فلتشاركينني في ما قدمه لي الرب !"

أهتم جورج بالشاب الثري في محبته ولطفه كما في أمواله ، وبدأ يدربه على التجارة ، واخيراً تزوج وليم ماري التي أحبت جورج ، لا من أجل ماله وغناه ، وإنما لأجل حبه ورقته وحكمته في التصرف .





إلهي هب لي قلباً متسعاً بالحب ، وفكراً حكيماً مملوء اتزاناً.

أنت حبي، أنت كنزي ، أنت كلي الحكمة .

لأقتنيك فلا تعوزني شيء!
 
من كتاب أبونا تـادرس يعقـوب ملطـى

ليست هناك تعليقات: